تهاويم

ما من استعارة ذهبية أو مجاز ناجح تجاوز أكثر من ألفيْ عام كمجاز طِبابة الفلسفة حيث يستلّ المتفلسف دواته ومحبرته كما يحضّر الطبيب أدواته الجراحية ليقوّم اعوجاج الناس ويبرئ الأكمه والأصمّ منهم بإرهاف أسماعهم إلى البرهان وصوت العقل. أستطيع التعميم بأنّ جُلّ الفلاسفة عبر التاريخ إنما كانوا أطباءَ جيّدين لا سيّما الفترة العربية التي حفلت بابن سينا وأبي بكر الرازي وابن رشد وغيرهم كثر تاسّياً -ليس بالفيلسوف اليوناني الوثني فحسب الذي يدمج الحكمة بالبرهان، بل- بالإله الإسلامي الذي يملك تسعاً وتسعين اسماً وأحد هذه الأسامي وأشهرها «الشافي». لقد وجد المتفلسف العربي نفسه مدعوّاً عفو الخاطر إلى تشخيص المرض في ثقافته ومِلّته والعمل على شفائه في الوقت نفسه بتوسّل آلة العقل تارةً والركون إلى الشريعة طوراً آخر. بيد أن المجاز نفسه قد غيَّر من مضمونه الحداثي من خلال العبور من تدريب الناس على الموت (المهمة التي استمرّت من سقراط إلى ابن رشد) عن طريق البرهنة على ثنائية الجسد والروح حيث تفتكّ الأخيرة نفسَها من مقبرة البدن (sōma باليونانية القديمة تعني قبراً أو سجناً في مقابل idea التي تفيد معنى الفكرة أو المثال المفارِق) لكي تجنح إلى عالم سماوي هانئ، الجنة الموعودة حيث تستريح الأنفس من تعبها الميتافيزيقي، إلى نقد الأفكار وإعادة تقييم القيم وقلْبها ورسم أشكال الحياة بالنظر إلى الألعاب اللغوية التي تفترضها.