نقد الاقتصاد السياسي

كتاب "نقد الاقتصاد السّياسي" يضعنا أمام حالة استثنائية في الكتابة الإبداعيَّة؛ فقلّما يجتمع في مُفكرٍ العُمق والبساطة معًا، ففي الغالب تميل الكتابات الَّتي تحاول أن تُعيد المأسسة إلى التجريد وبالتالي الصعوبة التعبيريَّة، إلا أن صاحب هذا الكتاب تمكّن بلغته الرصينة وتعبيراته الرشيقة، من أن يجعل الكتاب على عُمقه سهلًا ميسورًا، سواء للمتخصص أو غير المتخصص. فلن تجد عقباتٍ تعوق رحلتك داخل الكتاب، خاصَّة أن البنية المنطقيَّة للعمل تأخذك من مقدماتٍ واضحة لنتائجَ دقيقة، فتشعر كأنك في عملية حسابيَّة تنقلك بسلاسة من مرحلة لأخرى دون عنت. لقد بدأ عمله بوضع الأسس التي يحتاجها قارئ علم الاقتصاد السياسي، مشيرًا لما تم إنجازه، كيف بدأ وكيف تطور، وإلام وصل، ثم يذهب بكل جسارة واقتدار معًا في رحلة التعرية أو النقد، يدخل عُشّ الزنابير دون تردد، فنحن أمام مُفكر يملك أدواته جيدًا، والأهم من ذلك أنه يعرف جيدًا طبيعة معركته. وزاد من صعوبة معركته أنه غير مؤدلج في زمن تنغمس الأقلام في الأيديولوجيا قبل أن تنغمس في الحبر. في هذا الكتاب يطغى العلم على تفاهات الأيدلوجيا. وحينا يتعرض زكي في عدة فصول للآباء المؤسسين لعلم الاقتصاد السّياسي، وما أضافوه، فعلى الرغم من عمق إضافاته، إلا أنه لم يتنكّر للسَّابقين عليه، بل يعلم علم اليقين أن إضافاته ليست أكثر من لبنة في بناء عظيم، أُسِّس على مدار قرون، وأنه حلقة في سلسلة معرفيَّة لا يمكن للاحق فيها أن يضيف ما لم يضع السَّابق الأسس. فستجد نقده موضوعيًّا علميًّا للآباء المؤسسين سميث وريكاردو وماركس. ولن أتحدث عن تمكّنه من هضم هؤلاء الكبار، فهو أكبر من ذلك حقًا، ناهيك عن كون عدم تأدلجه ورجوعه للمصادر الأصليَّة لا المذكرات التي تُكتب لأنصار الأيديولوجيات المختلفة، جعله مُلِمّا بعمقٍ بموضوع بحثه، فأن تخلع نظارة الأيديولوجيا يعني أنك سترى الحقيقة، أو على الأقل سترى بوضوح أكثر ممن تعوقهم نظاراتهم الأيديولوجية عن رؤيته. يعيد زكي في هذا الكتاب كتابة علم الاقتصاد السّياسي من منطلقات حضاريَّة وإنسانيَّة. وهو يفعل ذلك بعقليَّة موسوعية جبارة وتحليلات موضوعيَّة مدهشة. هذا الكتاب يخوض المغامرة رأسًا من "الأساسيات" إلى "نهاية الاقتصاد السّياسي". إنها مغامرة محمد عادل زكي في شعاب الاقتصاد السياسي، وهي متاهة لا شك. متاهةٌ دخلها، بكل شجاعة وتمكن، نيابة عن الثقافة العَربيَّة برمّتها.